(( في تلك الزاوية المظلمة …. ارتفعت صرخاتها….. وتعالى بكاؤها….. مضت اللحظات ثقيلة وكأنما تجر وراؤها الجبال الراسية… وازداد عويلها وتلقفته الجدران المحيطة
بها لتعيده صدىً قاتلا لآذناها الصغيرتان… ولكن لا مجيب!
لم تكن تعرف معنى للألم .. سوى إحساسها بالجوع الذي قرصها منذ ساعات … ولم تكد تتذوق من الحياة سوى نفحات الهواء الباردة التي تسللت إلى جسدها الصغير…
هي طفلة ما زالت في أسابيعها الأولى …. ولكن الحياة استقبلتها بوجوم….. وحكمت عليها بالشقاء منذ أن سكن نور الحياة عينيها… لم تجد حضنا حانيا يضمها… ولا صوتا هادئا يناغيها.. لم تسمع سوى مواء القطط … ونعيق الغربان..
كان المكان الوحيد الذي ضمها رصيف مهجور وسماء مكفهرة… وجدار متهدم هو سور لمسجد صغير قلة هم مرتادوه…
أما كيف كان وصولها إلى هناك فقد ألقت بها يد الظلم التي تناست أن هناك مطلع على ما جنت… وأن العقاب سيقع بها ولو بعد حين…. ألقت بها ولسان حالها يقول قد يلتقطها بعض السيارة.. دون أن تضع في حسبانها ما قد يصيب البريئة من أذى…
ومازال بكاؤها يقطع سكون الليل… وما زال ضمير الإنسانية غافيا على عتبات الظلم والوحشية… وما زالت روحها تتذبذب بين الصعود والبقاء…
رغم انعدام خبرتها في الحياة …. إلا أنها كانت تبحث عن مصدر تستمد منه الأمان… وهنا شعرت بجسد ناعم يلفها..أشعل دفئه الأمل في قلب كسير لا يفقه شيئا من معاني الحياة….ثم بدأ صوتها يخبو شيئا فشيئا كلما اشتد التفافه حول جسدها الصغير حتى بدأت الروح تتسلل مغادرة أطرافها… وسكنت أوصالها وبدأ البرد يحضن كيانها الصغير… وبدأت رحلتها نحو العالم الآخر وكأنما لفظتها الدنيا بما فيها…كما لفظها حضن من فقدت إحساس الأمومة منذ سويعات…. ولكن كل هذا انتهى عندما انقضت قطة أنهكها الجوع لتنهش بكل نهم لإشباع جوعها واستعادة رمقها بعد أن كانت على مشارف الموت….
وهنا عاد صوتها ليرتفع من جديد…وبدأ بكاؤها يعلو….ولكن المكان لم يعد هادئا كما كان فقد ارتفع للتو أذان الفجر مناديا الناس بأن هلموا لأداء الصلاة… ومع ارتفاع الأذان اقتربت بخطوات عجلا من الرصيف المهجور…. فقد وصل إلى سمعي صوت البكاء الجريح.. وأقبلت أبحث عن مصدره.. وهنا صعقت من هول ما وقعت عليه عيناي فقد كانت الطفلة مغطاة بالدماء .. بينما تمددت بجوارها تلك القطة .. وتناثرت أشلاء عرفت فيها بقايا أفعى ضخمة كانت ضحية لأنياب القطة التي غفت بعد أن خمدت ثورة الجوع لديها…وهنا حملت الصغيرة بين
ذراعاي.. وفي داخلي سؤال يتردد.. من تكون؟؟ ومن تركها هنا؟؟ ومنذ متى؟؟ أسئلة مازلت أبحث عن أجوبتها… وقمت بنقلها إلى أقرب مستشفى للاطمئنان على وضعها الصحي … وما زالت تداولها الأيدي حتى استقر بها الحال في إحدى دور رعاية الأيتام …. وهنا بدأت صفحة جديدة من كتاب حياتها ….
رغم أن الحياة قد أخذت منها الكثير.. والكثير.. إلا أنها بدأت تعويضها شيئا مما فقدته.. فكان أول شيء حصلت عليه ..بعد أن فقدت دفء صدر الأم الحاني..هو ورقة تثبت وجودها…))
هنا توقفت عن القراءة ونظرت إليها وقلبي يعتصره الألم… فقد كان اعترافها لي بحقيقتها أمر غريب ومفاجئ.. ونطق لساني بعبارة لم أمنحها حقها من التفكير…
– إذا.. لديك شهادة ميــــلاد!! ما الذي كتب فيها ؟؟!
أجابتني ونظرة الحزن ما زالت تقطن عينيها…منحتني هذه الورقة اسما… منحتني مسقط رأس.. ولكن لم تمنحني الحب…ذلك الأمر الذي أمضيت معظم أيامي لاهثة وراءه …باحثة عنه..أتخبط في دروب الحياة..وتتقلب بي أمواجها… وما زلت أتتطلع إلى الوصول إليه…
– ولكنهم اختاروا لك اسمـا جميلا ” أمـــل”..
نعم اسم جميل ولكنه مجرد وهم… فالاسم ليس هو الاسم… والمكان ليس هو المكان… ليس في حياتي أي أمل … إنما هي حياة شقاء و ” ألـــم “…
ساد الصمت وأنا أتأمل تلميذتي الحزينة… وفي داخلي تزاحمت الأسئلة… يا لها من مأساة أكتشف وجودها في مجتمعنا لأول مرة.. ليست أمل هي الوحيدة التي تعيش هذه
الحالة….
مضت الشهور الأولى من عمرها.. ولكنها لم تمض كغيرها من الصغار…لم يكن هناك من أم تنتظر كلماتها الأولى.. أو أب يترقب خطواتها العاثرة.. كان كل ما عرفته هو حاضنة توزع ساعات يومها بين طفل وآخر…
قاسية هي الحياة بالنسبة لها فقد وصمتها باليتم منذ أن اتسعت مداركها لتسأل عن أب رحيم وأم حنون …. كان كل ما تعرفه عنهما هو أنهما قد رحلا عن الوجود منذ زمن… وأن ليس لها من مأوى آخر سوى تلك الدار التي حطت رحالها فيها منذ الصغر…
عاشت سنين الطفولة الأولى يشاطرها الألم وغربة الروح الكثير من أمثالها… كانت الدار تعج بالأطفال على اختلاف ألوانهم وأشكالهم و مبررات وجودهم… إلا أنهم اتفقوا في مسماهم… أيتام…
وتكبر الطفلة ومعها تكبر تساؤلاتها واستفساراتها.. فوجودها في هذا المكان هو معضــلة لا تعرف لها حــلا.. ولغز لم تتوصل بعد إلى إجــابته.. والمتأمل في عينيها يستطيع قراءة ما كتبته الأيام فيها من جروح…
وفي داخل أمل كانت الأفكار تتصارع.. فهي ترى في عيني معلمتها تساؤل عن السبب الذي دفعها للبوح بحقيقة واقعها لها… إنها لا تعلم بأنها مصدر أمن أشرق في حياة الفتـــاة… فهي لم تحظ بالاهتمام من قبل لذاتها هي بل كان التعامل معها مبدؤه الشفقة والرحمة… وابتسمت أمل وهي تتذكر حلمها بأن يكون لها أسرة سعيدة.. تحضن فيها أطفالها مع زوج محب يكد ليؤمن لأسرتهما الصغيرة حياة كريمة.. كانت تريد أن توفر لأطفالها الحنان الذي افتقدته منذ نعومة أظافرها.. وكانت تطمح بأن تتذوق طعم الأمــــان الذي لم تعرفه قط…
إلى أن عرفت حقيقتها المرة… لم يكن من السهل إطلاعها على سر وجودها في هذه الحياة.. فمنذ سنين عدة وهي تبحث عن هويتها المجهولة… وهاهي الآن تعرف أن لا أب لها ولا أم.. وأن قدرها أن يعاقبها المجتمع على خطيئة لا ناقة لها فيها ولا جمل.. كان وقع الحقيقة عليها قاسيا.. وكانت ردة فعلها عنيفة.. لم تقبل بواقعها الجديد.. ولم تصدق قصتها المؤلمـة.. وسكن الانكسار نفسها المتطلعة إلى المستقبل.. ومات حلمها الصغير… وضاعت في دوامة قوية.. تأخذها الأفكــار بعيدا… ثم تلقي بها بشدة على أرض واقعها القاسي… وهنا تأخذ شخصيتها
منحى جديدا…
لم يعد الهدوء والاتـزان سمة لها… و تغيرت جميع الخطط التي رسمتها لنفسها.. فقد أصبح مجتمعها الرافض لوجودها هو عدوها الأول بعد أن كانت ترى فيه الحضن الكبير الذي يحتويها وأمثالها من ” الأيتام”…وابتسمت عندما لاحت الكلمة في خيالها… أيتام… تلك الكلمة اللطيفة التي أطلقت عليها لتخفف من وطأة حقيقتها المرة… وهنا ثار السؤال الحائر الذي أرقها منذ أيام…. منذ أن تلقت الخبر بعودة أمها…وبدون تفكير ألقت به على مسامع معلمتها التي منحتها الثقة في نفسها…
– تخيلي معلمتي أن أمك تريد استعادتك بعد ثمانية عشرة عاما ؟؟!! ماذا ستفعلين ؟؟؟
كان السؤال محير وإجابته أيضا محيرة …تأملتها المعلمة قليلا وأجابتها… ألتقي بها وأعرف ماذا تريد.. وما الذي جعلها تتخلى عني عندما كنت في أمس الحاجة إليها…
-ولماذا عادت الآن بالذات… أجابتها معلمتها وفي داخلها كره شديد لهذه الأم التي ألقت بابنتها ذات يوم في مكان لا تطرقه الأقدام إلا نادرا.. وكأنها تسعى لقتل تلك
البريئة التي لا ذنب لها في الحياة إلا أنها كانت ابنتها…
–
ولكني التقيت بها ولم تجبني على الأسئلة التي أرقتني منذ عدة سنوات… لم تشفي قلبي الجريح الذي بكى مرارة اليتم سنينا طوالا… كان كل ما تريده هو استعادتي ومحاولة تعويضي ما فقدته
من حنان الأم.. و دفء الأسرة فيما مضى من سنين…
–
وما هو قـــرارك ؟؟!!
قراري!!.. صمتت أمـل بعد أن نطقت بهذه الكلمة… وهنا انطلق رنين الجرس…. ليعلن انتهاء اليوم الدراسي… نهضت أمل وكأنها كانت تبحث لها عن مفر من إجابة
السؤال الصعب… ولم تجرؤ المعلمة على تكرار سؤالها… حتى لا تنعش الألم المستوطن صدر تلميذتها…حملت أمل حقيبتها على كتفها… وفي داخلها حملت همومـا … وثارت
عواصف من العواطف والتساؤلات … وغاصت في طوفـان أفكارها…
لم تكن أمل لوحدها في تلك الحافلة التي اعتادت أن تقلها إلى حيث تريد… بل كان الضجيج من حولها…. يثير توترها…. وكانت كثرة مثيلاتها.. تعتم الرؤية لديها… لم تعد الصورة واضحة… فهي لا تعرف الآن إلى من تنتمي… إلى هذه الفئة التي شاطرتها كأس الحرمان… وعايشت معها اليتم السنين الطوال…إلى ضحايا آباء وأمهات ضلوا عن جادة الطريق… أم إلى هذا المجتمع الذي يرفضها ويرفض وجود أمثالها…. و تلك الأم التي تفتح لها ذراعاها كي تعود للعيش تحت كنفها… بعد أن ألقت بها خلف ظهرها منذ أمـــد…
_ “أمي”!!.. يا لها من كلمة تمنيت أن أنطقها دومــا… وعندما لفظها لساني لم يكن لها معنى… أين كانت عندما كنت مولودة أتضور جوعا على قارعة الطريق؟؟..
أين كانت في اليوم الدراسي الأول… وجميع الفتيات يرتمين في أحضان أمهاتهن خوفـا من مصير مجهول.. في عالم جديد؟؟.. أين كانت عندما بدأت مرحلة جديدة في حياتي…
عندما بدأت أودع سنين الطفولة وأنتقل إلى عالم النساء , عندما كبرت احتياجاتي وتبدلت أحاسيسي؟؟!!
لم أشعر بالرغبة في أن ألقي بنفسي في حضنها… لم أشعر سوى بالجمود… والبرد الذي لفني عندمـا التقت عيناي بعينيها… لم أشعر بلهفة ولا شوق… وأنا ألتقي بها لأول مرة… كنت أحلم فيما سبق بأم تضمني بعطف…. وألقي برأسي الذي أثقلته هموم الحياة..على صدرها… كنت أنتظر منها ان تربت على كتفي الذي أنهكته السنين… وجدت نفسي على جسر معلق وأنا عاجزة عن التحرك.. فأمامي أم أجهلها تمد لي يد ذات ملمس خشن… وخلفي مجتمع ينظر لي نظرة ازدراء.. والعواصف تهب من كل اتجاه.. والجسر يتحرك بقوة وأنا أفقد توازني وفجأة وجدت نفسي أسقط بقوة نحو الهاوية…
فتحت عيناي لأجد نفسي على سريري الصغير.. الذي بللته دموعي كثيرا.. واحتواني بعطف ولين فيما مضى من سنين..وفي عقلي مشروع قرار لم يكتمل بعد… وبجواري تلك الورقة التي تحكي حالتي على الرصيف المهجور…
بعد زيارتي لدار الحضانة